الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
ويقال سورة الغرف. قال وهب بن منبه: من أحب أن يعرف قضاء الله عز وجل في خلقه فليقرأ سورة الغرف. وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. وقال ابن عباس: إلا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار} قوله تعالى}تنزيل الكتاب}رفع بالابتداء وخبره }من الله العزيز الحكيم }. ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل؛ قال الفراء. وأجاز الكسائي والفراء أيضا }تنزيل}بالنصب على أنه مفعول به. قال الكسائي: أي اتبعوا واقرؤوا }تنزيل الكتاب}. وقال الفراء: هو على الإغراء مثل قوله قوله تعالى}إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق}أي هذا تنزيل الكتاب من الله وقد أنزلناه بالحق؛ أي بالصدق وليس بباطل وهزل. }فاعبد الله مخلصا}}مخلصا}نصب على الحال أي موحدا لا تشرك به شيئا }له الدين}أي الطاعة. وقيل: العبادة وهو مفعول به. }ألا لله الدين الخالص}أي الذي لا يشوبه شيء. قال ابن العربي: هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان أن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطرا ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية. قوله تعالى}والذين اتخذوا من دونه أولياء}يعني الأصنام والخبر محذوف. أي قالوا}ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله، فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام في الأحقاف قوله تعالى}لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء}أي لو أراد أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله عز وجل إليهم. }سبحانه}أي تنزيها له عن الولد }هو الله الواحد القهار}. {خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار، خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون} قوله تعالى}خلق السماوات والأرض بالحق}أي هو القادر على الكمال المستغني عن الصاحبة والولد، ومن كان هكذا فحقه أن يفرد بالعبادة لا أنه يشرك به. ونبه بهذا على أن يتعبد العباد بما شاء وقد فعل. }يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل}قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا وهذا على هذا. وهذا على معنى التكوير في اللغة وهو طرح الشيء بعضه على بعض؛ يقال كور المتاع أي ألقى بعضه على بعض؛ ومنه كور العمامة. وقد روي عن ابن عباس هذا في معنى الآية. قال: ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل. وهو معنى قوله تعالى قوله تعالى}خلقكم من نفس واحدة}يعني آدم عليه السلام }ثم جعل منها زوجها}يعني ليحصل التناسل وقد مضى هذا في }الأعراف}وغيرها. }وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج}أخبر عن الأزواج بالنزول، لأنها تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل. وهذا يسمى التدريج؛ ومثله قوله تعالى {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور} قوله تعالى}إن تكفروا فإن الله غني عنكم}شرط وجوابه. }ولا يرضى لعباده الكفر}أي أن يكفروا أي لا يحب ذلك منهم. وقال ابن عباس والسدي: معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله فيهم قوله تعالى}وإن تشكروا يرضه لكم}أي يرضى الشكر لكم؛ لأن }تشكروا}يدل عليه. وقد مضى القول في الشكر في }البقرة}وغيرها. ويرضى بمعنى يثيب ويثني، فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار، أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} قوله تعالى}وإذا مس الإنسان}يعني الكافر }ضر}أي شدة من الفقر والبلاء }دعا ربه منيبا إليه}أي راجعا إليه مخبتا مطيعا له مستغيثا به في إزالة تلك الشدة عنه. }ثم إذا خوله نعمة منه}أي أعطاه وملكه. يقال: خولك الله الشيء أي ملكك إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد: وخول الرجل: حشمه الواحد خائل. قال أبو النجم: قوله تعالى}نسي ما كان يدعو إليه من قبل}أي نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه. فـ }ما}على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي. وقيل: بمعنى من كقوله قوله تعالى}أمن هو قانت آناء الليل}بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره. وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي }أمن}بالتشديد. وقرأ نافع وابن كثير ويحيى ابن وثاب والأعمش وحمزة}أمن هو}بالتخفيف على معنى النداء؛ كأنه قال يا من هو قانت. قال الفراء: الألف بمنزلة يا، تقول يا زيد أقبل وأزيد أقبل. وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين؛ كما قال أوس بن حجر: وقال آخر هو ذو الرمة: فالتقدير عل هذا }قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار}يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة؛ كما يقال في الكلام: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من يصلي ويصوم أبشر؛ فحذف لدلالة الكلام عليه. وقيل: إن الألف في }أمن}ألف استفهام أي }أمن هو قانت آناء الليل}أفضل؟ أم من جعل لله أندادا؟ والتقدير الذي هو قانت خير. ومن شدد}أمن}فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير }أمن هو قانت}فالجملة التي عادلت أم محذوفة، والأصل أم من فأدغمت في الميم. النحاس: وأم بمعنى بل، ومن بمعنى الذي؛ والتقدير: أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر. وفي قانت أربعة أوجه: أحدها أنه المطيع؛ قاله ابن مسعود. الثاني أنه الخاشع في صلاته؛ قاله ابن شهاب. الثالث أنه القائم في صلاته؛ قاله يحيى بن سلام. الرابع أنه الداعي لربه. وقول ابن مسعود يجمع ذلك. قوله تعالى}قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}قال الزجاج: أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقال غيره: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم. }إنما يتذكر أولو الألباب}أي أصحاب العقول من المؤمنين. {قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} قوله تعالى}قل ياعباد الذين آمنوا}أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين }اتقوا ربكم}أي أتقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو وقد تقدم. وقال ابن عباس: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة. ثم قال}للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة}يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة. وقيل: المعنى للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا، يكون ذلك زيادة على ثواب الآخرة، والحسنة الزائدة في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة. قال القشيري: والأول أصح؛ لأن الكافر قد نال نعم الدنيا. قلت: وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم. وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن، وفي الآخرة الجزاء. قوله تعالى}وأرض الله واسعة}فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي. وقد مضى القول في هذا مستوفى في }النساء}وقيل: المراد أرض الجنة؛ رغبهم في سعتها وسعة نعيمها؛ كما قال قلت: فتكون الآية دليلا على الانتقال من الأرض الغالية، إلى الأرض الراخية، كما قال سفيان الثوري: كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزا بدرهم. قوله تعالى}إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}أي بغير تقدير. وقيل: يزاد على الثواب؛ لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب. وقيل}بغير حساب}أي بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا. و}الصابرون}هنا الصائمون؛ دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبرا عن الله عز وجل: (الصوم لي وأنا أجزي به}قال أهل العلم: كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا؛ وحكي عن علي رضي الله عنه. وقال مالك بن أنس في قوله}إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}قال: هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها. ولا شك أن كل من سلم فيما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجرهم. {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين، وأمرت لأن أكون أول المسلمين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، قل الله أعبد مخلصا له ديني، فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين، لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون} قوله تعالى}قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين}تقدم. }وأمرت لأن أكون أول المسلمين}من هذه الأمة، وكذلك كان؛ فإنه كان أول من خالف دين آبائه؛ وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إليه صلى الله عليه وسلم. واللام في قوله}لأن أكون}صلة زائدة قال الجرجاني وغيره. وقيل: لام أجل. وفي الكلام حذف أي أمرت بالعبادة }لأن أكون أول المسلمين}. قوله تعالى}قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}يريد عذاب يوم القيامة وقال حين دعاه قومه إلى دين آبائه؛ قال أكثر أهل التفسير. وقال أبو حمزة الثمالي وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى قوله تعالى}قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}قال ميمون بن مهران عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. في رواية عن ابن عباس: فمن عمل بطاعة الله كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} قوله تعالى}والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها}قال الأخفش: الطاغوت جمع ويجوز أن تكون واحدة مؤنثة. وقد تقدم. أي تباعدوا من الطاغوت وكانوا منها على جانب فلم يعبدوها. قال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان. وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان. وقيل: إنه الكاهن. وقيل إنه اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت وهاروت وماروت. وقيل: إنه اسم عربي مشتق من الطغيان، و}أن}في موضع نصب بدلا من الطاغوت، تقديره: والذين أجتنبوا عبادة الطاغوت. }وأنابوا إلى الله}أي رجعوا إلى عبادته وطاعته. }لهم البشرى فبشر عباد}}لهم البشرى}في الحياة الدنيا بالجنة في العقبى. روي أنها نزلت في عثمان وعبدالرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير رضي الله عنهم؛ سألوا أبا بكر رضي الله عنه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا. وقيل: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وغيرهما ممن وحد الله تعالى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله}الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به. وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون القرآن وأقوال الرسول فيتبعون أحسنه أي محكمه فيعملون به. وقيل: يستمعون عزما وترخيصا فيأخذون بالعزم دون الترخيص. وقيل: يستمعون العقوبة الواجبة لهم والعفو فيأخذون بالعفو. وقيل: إن أحسن القول على من جعل الآية فيمن وحد الله قبل الإسلام }لا إله إلا الله}. وقال عبدالرحمن بن زيد: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم، واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم. }أولئك الذين هداهم الله}لما يرضاه. }وأولئك هم أولو الألباب}أي أصحاب العقول من المؤمنين الذين انتفعوا بعقولهم. {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} قوله تعالى}أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار}كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قوم وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان. وكرر الاستفهام في قوله}أفأنت}تأكيدا لطول الكلام، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى {لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد} قوله تعالى}لكن الذين اتقوا ربهم}لما بين أن للكفار ظلا من النار من فوقهم ومن تحتهم بين أن للمتقين غرفا فوقها غرف؛ لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا و}لكن}ليس للاستدرار؛ لأنه لم يأت نفي كقوله: ما رأيت زيدا لكن عمرا؛ بل هو لترك قصة إلى قصة مخالفة للأولى كقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يأت. }مبنية}قال ابن عباس: من زبرجد وياقوت }تجري من تحتها الأنهار}أي هي جامعة لأسباب النزهة. }وعد الله}نصب على المصدر؛ لأن معنى }لهم غرف}وعدهم الله ذلك وعدا. ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله. }لا يخلف الله الميعاد}أي ما وعد الفريقين. {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} قوله تعالى}ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء}أي إنه لا يخلف الميعاد في إحياء الخلق، والتمييز بين المؤمن والكافر، وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء. }أنزل من السماء}أي من السحاب }ماء}أي المطر }فسلكه ينابيع في الأرض}أي فأدخله في الأرض وأسكنه فيها؛ كما قال أن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا، نبوعا خرج. والينبوع عين الماء والجمع الينابيع. وقد مضى في }سبحان]. }ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه}ثم يخرج به أي بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض }زرعا}هو للجنس أي زروعا شتى لها ألوان مختلفة، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونورا. قال الشعبي والضحاك: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة، ثم تقسم منها العيون والركايا. }ثم يهيج}أي ييبس. }فتراه}أي بعد خضرته }مصفرا}قال المبرد قال الأصمعي: يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى. قال: كذلك هاج النبت. قال: وكذلك قال غير الأصمعي. وقال الجوهري: هاج النبت هياجا أي يبس. وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته، وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات، وهاج هائجه أي ثار غضبه، وهدأ هائجه أي سكنت فورته. }ثم يجعله حطاما}أي فتاتا مكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس. والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة. وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض، أي أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين }ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه}أي دينا مختلفا بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع. وقيل: هو مثل ضربه الله للدنيا؛ أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها. }إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب}. {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} قوله تعالى}أفمن شرح الله صدره للإسلام}شرح فتح ووسع. قال ابن عباس: وسع صدره للإسلام حتى ثبت فيه. وقال السدي: وسع صدره بالإسلام للفرح به والطمأنينة إليه؛ فعلى هذا لا يجوز أن يكون هذا الشرح إلا بعد الإسلام؛ وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام. }فهو على نور من ربه}أي على هدى من ربه. }فويل للقاسية قلوبهم}قال المبرد: يقال قسا القلب إذا صلب، وكذلك عتا وعسا مقاربة لها. وقلب قاس أي صلب لا يرق ولا يلين. والمراد بمن شرح الله صدره ها هنا فيما ذكر المفسرون علي وحمزة رضي الله عنهما. وحكى النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال مقاتل: عمار بن ياسر. وعنه أيضا والكلبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآية عامة فيمن شرح الله صدوره بخلق الإيمان فيه. {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} قوله تعالى}الله نزل أحسن الحديث}يعني القرآن لما قال وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال سعيد بن عبدالرحمن الجمحي: مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم؛ ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عمر بن عبدالعزيز: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق. وقال أبو عمران الجوني: وعظ موسى عليه السلام بني إسرائيل ذات يوم فشق رجل قميصه، فأوحى الله إلى موسى: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه فإني لا أحب المبذرين؛ يشرح لي عن قلبه. وقيل: إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته، اقشعرت الجلود منه إعظاما له، وتعجبا من حسن ترصيعه وتهيبا لما فيه؛ وهو كقوله تعالى {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون، كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} قوله تعالى}أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب}قال عطاء وابن زيد: يرمى به مكتوفا في النار فأول شيء تمس منه النار وجهه. وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار. وقال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة عظيمة كالجبل العظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه، فحرها ووهجها على وجهه؛ لا يطيق دفعها عن وجهه من أجل الأغلال. والخبر محذوف. قال الأخفش: أي }أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب}أفضل أم من سعد، مثل قوله تعالى}كذب الذين من قبلهم}أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد. }فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون. فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا}تقدم معناه. وقال المبرد: يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته،أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي من المكروه والخزاية من الاستحياء }ولعذاب الآخرة أكبر}أي مما أصابهم في الدنيا }لو كانوا يعلمون}. {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} قوله تعالى}ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل}أي من كل مثل يحتاجون إليه؛ مثل قوله تعالى {لعلهم يتقون}الكفر والكذب. {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} قوله تعالى}ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون}قال الكسائي: نصب }رجلا}لأنه ترجمة للمثل وتفسير له، وإن شئت نصبته بنزع الخافض، مجازه: ضرب الله مثلا برجل }فيه شركاء متشاكسون}قال الفراء: أي مختلفون. وقال المبرد: أي متعاسرون من شكس يشكس شكسا بوزن قفل فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر، يقال: رجل شكس وشرس وضرس وضبس. ويقال: رجل ضبس وضبيس أي شرس عسر شكس؛ قاله الجوهري. الزمخشري: والتشاكس والتشاخس الاختلاف. يقال: تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه. ويقال: شاكسني فلان أي ماكسني وشاحني في حقي. قال الجوهري: رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق. قال الراجز: وقوم شكس مثال رجل صدق وقوم صدق. وقد شكس بالكسر شكاسة. وحكى الفراء: رجل شكس. وهو القياس، وهذا مثل من عبد آلهة كثيرة. }ورجلا سلما لرجل}أي خالصا لسيد واحد، وهو مثل من يعبد الله وحده. }هل يستويان مثلا}هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة، ونياتهم متباينة، لا يلقاه رجل إلا جره واستخدمه؛ فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يرضي واحدا منهم بخدمته لكثرة الحقوق في رقبته، والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطأه، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم. وقرأ أهل الكوفة وأهل المدينة}ورجلا سالما}وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وعاصم الجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب}ورجلا سالما}واختاره أبو عبيد لصحة التفسير فيه. قال: لأن السالم الخالص ضد المشترك، والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب هنا. النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم؛ لأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما، فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع آخر؛ كما يقال لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك. ويلزمه أيضا في سالم ما ألزم غيره؛ لأنه يقال شيء سالم أي لا عاهة به. والقراءتان حسنتان قرأ بهما الأئمة. واختار أبو حاتم قراءة أهل المدينة }سلما}قال وهذا الذي لا تنازع فيه. وقرأ سعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية ونصر }سلما}بكسر السين وسكون اللام. وسلما وسلما مصدران؛ والتقدير: ورجلا ذا سلم فحذف المضاف و}مثلا}صفة على التمييز، والمعنى هل تستوي صفاتهما وحالاهما. وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. }الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}أي لا يعلمون الحق فيتبعونه. {إنك ميت وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قوله تعالى}إنك ميت وإنهم ميتون}قرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق }إنك مائت وإنهم مائتون}وهي قراءة حسنة وبها قرأ عبدالله بن الزبير. النحاس: ومثل هذه الألف تحذف في الشواذ و}مائت}في المستقبل كثير في كلام العرب؛ ومثله ما كان مريضا وإنه لمارض من هذا الطعام. وقال الحسن والفراء والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف من فارقته الروح؛ فلذلك لم تخفف هنا. قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليكم أنفسكم. وقال ثابت البناني: نعى رجل إلى صلة بن أشيم أخا له فوافقه يأكل، فقال: ادن فكل فقد نعي إلي أخي منذ حين؛ قال: وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر. قال إن الله تعالى نعاه إلي فقال}إنك ميت وإنهم ميتون}. وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بموته وموتهم؛ فاحتمل خمسة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك تحذيرا من الآخرة. الثاني: أن يذكره حثا على العمل. الثالث: أن يذكره توطئة للموت. الرابع: لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره، حتى أن عمر رضي الله عنه لما أنكر موته احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية فأمسك. الخامس: ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره؛ لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة. قوله تعالى}ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}يعني تخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم؛ قال ابن عباس وغيره. وفي خبر فيه طول: إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد. {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين، والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون، لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين، ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} قوله تعالى}فمن أظلم}أي لا أحد أظلم }ممن كذب على الله}فزعم أن له ولدا وشريكا }وكذب بالصدق إذ جاءه}يعني القرآن }أليس في جهنم}استفهام تقرير }مثوى للكافرين}أي مقام للجاحدين، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوي ثواء وثويا مثل مضى مضاء ومضيا، ولو كان من أثوى لكان مثوى. وهذا يدل على أن ثوى هي اللغة الفصيحة. وحكى أبو عبيد أثوى، وأنشد قول الأعشى: والأصمعي لا يعرف إلا ثوى، وي"روى البيت أثوى على الاستفهام. وأثويت غيري يتعدى ولا يتعدى. قوله تعالى}والذي جاء بالصدق}في موضع رفع بالابتداء وخبره }أولئك هم المتقون}واختلف في الذي جاء بالصدق وصدق به؛ فقال علي رضي الله عنه}الذي جاء بالصدق}النبي صلى الله عليه وسلم}وصدق به}أبو بكر رضي الله عنه. وقال مجاهد: النبي عليه السلام وعلي رضي الله عنه. السدي: الذي جاء بالصدق جبريل والذي صدق به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد ومقاتل وقتادة}الذي جاء بالصدق}النبي صلى الله عليه وسلم}وصدق به}المؤمنون. واستدلوا على ذلك بقوله}أولئك هم المتقون}كما قال قوله تعالى}ليكفر الله عنهم}أي صدّقوا }ليكفر الله عنهم}. }أسوأ الذي عملوا}أي يكرمهم ولا يؤاخذهم بما عملوا قبل الإسلام. }ويجزيهم أجرهم}أي يثيبهم على الطاعات في الدنيا }بأحسن الذي كانوا يعملون}وهي الجنة.
|